هل يُمكن لباحثٍ يجلس آلاف الكيلومترات بعيدًا عن أحداث ميدان التحرير أن يفهم ما يحصل هناك، بل يفهم ما يُفكِّر فيه الشباب والشيوخ المجتمعون في ذلك الميدان؟ وهل يحتاج المرء إلى أن يضع تصوراته ورؤاه عن أحداث مصر الجِسام بناءً على تراث تاريخي عتيد، أو أن يحاول النظر في المستقبل واستشفاف اللحظة التاريخية في بلدٍ كبير ومؤثر مثل مصر، بعد أسبوعين من اعتصامات ومظاهرات عمَّت مدنًا كثيرة في البلاد، غير أنها اتَّخذت من ميدان التحرير شعاراً، ومنارةً عصيّة للمدافعين عنها؟ حين يحاول المرء أن يُحلِّل الأحداث التي تحدث هناك وردود الفعل تجاهها خاصةً من أهل القلم، فعليه أولاً أن يُحلِّل مواقف الفقهاء المسلمين من مفهوم الثورة. لقد حاولت ذلك وعدت إلى العديد من المراجع حول موقف الإسلام من الثورة، ولعل أهمها كتاب محمد عمارة المعنون "الإسلام والثورة"، وهو الذي كتبه عام 1988. غير أنَّ التعاطي مع مصطلح الثورة في الإسلام يدعو كذلك إلى النظر في مصطلح آخر قريب وشبه مرادف له، هو مصطلح الفتنة. وحين نعود إلى معجم "لسان العرب"، فإنه يفرّق بين المصطلحين، فالثورة عند العرب تعني التغيير والوثوب والهياج والانقلاب، أما الفتنة فهي أقرب إلى الاقتتال والعنف. وهذا لا يعني أنَّ المصطلح الأول لا يحمل ضمن تطوراته وصيرورته شكلاً من أشكال العنف التي لا يمكن لجمها في حال تجييش الجماهير، ولكن في الوقت ذاته لا تحيط به تلك الغلالة السوداء التي تكتنف مصطلح الفتنة، حيث إنَّ معظم فقهاء المسلمين قد وقفوا موقفاً عدائيّاً من الفتنة، لأنها تبيح الاقتتال وتحمل في طياتها صراعاً مُسلَّحاً لا نهاية له، خاصةً حينما ننظر إلى الفتنة الكبرى التي مرَّت في تاريخ الإسلام وظلَّت حاضرةً لأكثر من أربعة عشر قرناً، ولا زالت ذاكرتها تطلّ برأسها بين حينٍ وآخر. غير أنَّ اهتمام علماء المسلمين وفقهائهم كان يرتكز على حماية البيضة. وذهب بعضهم إلى الصبر على المكاره وتحمّل الظلم، طالما بقي الحاكم ينفذ شرائع الله، ولعلّ أشهر من ذهب إلى هذا المذهب والمنحى هو الإمام أحمد بن حنبل، وكذلك أيضاً تلميذه النظري ابن تيمية، على رغم ما عاناه من ظلمٍ واضطهاد، إلا أنه ظلَّ يدافع عن الدولة المسلمة، حتى ولو كانت دولةً ظالمة. وهناك من العلماء المُسلمين من دافعوا عن حق الأمة في دفع الظلم، وأطَّروا لبُعدٍ ديني يسمح بتغيير السلطة السياسية إذا انتفت فيها قواعد العدل، أو أصبح ديدنها الجور. وهناك مصطلحٌ عربي طارئ، ظهر في المقاومة الفلسطينية للاحتلال الإسرائيلي، وهو الانتفاضة، ومثل هذا المصطلح ينطوي على إطار رفض أمر واقع ظالم، ومحاولة تغييره بكل الطرق الممكنة، وإن كان الجانب السلمي فيه أغلب. وهذه المصطلحات الثلاثة، على أهميتها، ومعها مصطلحات أخرى، مثل الخروج، لا تسمح لنا بالتعامل مع الظاهرة المصرية أو التونسية الحاضرة بشكلٍ أساسي، أو إيجاد تأطير نظري لها بالاتكاء على التراث التاريخي الذي ربما ينحاز هنا إلى الجانب الفقهي دون ملامسته بشكلٍ عميق للجانب السياسي. فما حدث في ميدان التحرير، وقبل ذلك في تونس، هو حقّاً سمة من سمات الثورات الشعبية الكبرى في التاريخ، مثلها في ذلك كالثورة الفرنسية، أو الثورة البلشفية. فكلتاهما رسمتا خطّاً فاصلاً في تاريخ تلك الأمم، وأغلب الظن أن تفصل هاتان الثورتان، إن نجحتا في تحقيق أهدافهما، بين ماضي الأمة ومستقبلها. والإشكالية العميقة هنا أننا لا نملك رؤية كاملة أو استشفافاً كاملاً لما قد يحدث في المستقبل. ومثلما حاولنا دراسة مفهوم الثورة في الفكر الإسلامي السياسي، ينبغي أن ننظر كذلك إلى مفهوم الثورة والتجييش الشعبي في الفكر السياسي الغربي. حيث يميل هذا الفكر، باختلاف منظّريه إلى رؤية هذه الظاهرة عبر عوامل سياسية ونفسية واجتماعية، وإن نظر إليها الماركسيون بمنظار اقتصادي بحت. وشرعية أي نظام سياسي تبقى مرتبطة بعقد اجتماعي غير مكتوب بين الحاكم والمحكوم. وكما يطرح "روسو" في كتابه "العقد الاجتماعي" فإنَّ طرفي العقد ملتزمان بشروط العقد، وإذا ما أخلَّ أحد الطرفين بهذه الشروط، فإنَّ هذا سيقود إلى تآكل شرعيته، وبالتالي يسمح بانبثاق شرعية جديدة بناءً على قواعد وعقود اجتماعية بديلة. وربما كانت فكرة العقد الاجتماعي هنا قريبة جدّاً من نظرية البيعة عند المسلمين. غير أنني لست متأكداً من تطابق ديناميات التحوّل وقواعده وشروطه في نظرية العقد الاجتماعي على مفهوم البيعة. وفي رأيي أنه ينبغي التركيز على دراسة مفهوم البيعة وعلاقتها بشرعية السلطة، والاستعانة بالموروث التاريخي الإسلامي في هذا الشأن، بما يمكّننا من وضع أُسس نظرية جديدة للثورة في الإسلام. وفي الفكر السياسي الغربي للثورة، يعتمد نجاح الثورة على توافر عوامل عدة، من بينها تفكك البناء السلطوي والتلاحم بين الطبقات الحاكمة ومؤسسات الدولة. ومن بين ذلك أنَّ الثورات تمر بلحظات تاريخية حاسمة حين تفرض الأمور نفسها، وتتحول المواجهات السلمية إلى مواجهات دامية، حينها يمكن للقوى المؤثرة مثل المؤسسة العسكرية أن تلعب دوراً رئيساً في تسيير بوصلة العمل السياسي. وفي الحالة المصرية، نشهد حالةً من الاحتفالية التي تشبه الاحتفالات التي تسبق الحروب. وكل ذلك يعني أننا نشاهد حدثاً تاريخيّاً ونعيشه اليوم على شاشات التلفزة، بكل أحداثه ومهرجاناته أحياناً ومآسيه أحياناً أخرى. وحالة الشباب المصري في ميدان التحرير تمثّل مشهداً إنسانيّاً يتسامى الإنسان فيه على نفسه، ويبذل كل ما يملك في سبيل المجموع الذي ينتمي إليه، ومثل هذا المشهد لا يحدث إلا في لحظات تاريخية محدودة في تاريخ الأمم.